ماري أسعدتجربة التعاون بين الجمعيات الأهلية والمجلس القومي للطفولة والأمومة
By Moushira Khattab
السفيرة مشيرة خطابأمين عام المجلس القومي للطفولة والأمومة سابقاًوزيرة الدولة للأسرة والسكان سابقاً من أغنى محطات مسيرتي المهنية هي الفترة التي تسلمت فيها مسئولية المجلس القومي للطفولة والأمومة في ديسمبر 1999. ومنذ بداية عملي كأمين عام للمجلس القومي للطفولة والأمومة، عملت مع زميلاتي وزملائي بالمجلس بشكل مكثف لفتح الملفات المسكوت عنها، وهي قضايا الحماية الاجتماعية للفئات الضعيفة والمهمشة وفي مقدمتها عمالة الأطفال وأطفال الشوارع والأطفال ذوي الإعاقة والمحرومين من التعليم والفتيات ضحايا زواج الأطفال، وتشويه الأعضاء التناسلية للإناث " ختان الإناث" وضحايا تعاطي المواد المؤثرة على الحالة النفسية وإدمانها. ولمست كيف اصبحت هذه القضايا عبر السنين شائكة وحساسة ليس فقط من الناحية الاجتماعية والاقتصادية والقانونية، بل ومن الناحية السياسية. وحرصت من اللحظة الاولي ان يتم التعامل مع هذه القضايا من منظور حقوقي متكامل يكفل لهذه الفئات الهشة كرامتها. وبذلنا جهداً كبيراً حتي حصلنا على التأييد المجتمعي للمنظور الحقوقي في تناول هذه القضايا الشائكة، ونجحنا في وضع رؤية متكاملة لملف حقوق الطفل ووضع أولوياته واستراتيجيات الحماية الملائمة لكل موضوع، ولم يكن من الممكن وضع الخطط أو رسم السياسات بدون إطار قانوني يكفل هذه الحقوق، وبدون وضع قاعدة للبيانات ترشد السياسات، ناهيك عن الشراكة مع المجتمع المدني. ومن المؤكد أن ختان الإناث كان ضمن أكثر القضايا الشائكة – آنذاك - نظراً لكونه ممارسة قديمة جداً في مصر ومتغلغلة في الثقافة المجتمعية. ونظراً لاعتقاد البعض أنه واجب ديني، وترسخ هذا الاعتقاد بفضل ضبابية موقف من يتحدثون باسم الأديان. وختان الإناث مثل كافة الممارسات الضارة كان ولا يزال يتم في الخفاء والبيانات المتوفرة بشأنه غير مدققة. وكان من المهم البناء على جهود من سبقونا لمكافحة هذه الآفات الضارة. ودرسنا هذه الجهود، وعرفت أن حركة مكافحة تشويه الأعضاء التناسلية للإناث بدأت في مصرفي عشرينيات القرن الماضي علي يد كبار أطباء أمراض النساء والتوليد بقيادة الدكتور علي باشا إبراهيم (أول عميد مصري لكلية طب القصر العيني)، والذين تأثروا كثيراً بالمضاعفات الطبية الخطيرة التي تعاني منها النساء بسبب ممارسة ختان الإناث. وأبهرتني الحركة النشيطة للمجتمع المدني لتوعية الناس ضد ختان الإناث وخاصة من المنظور الطبي والديني، وكانت هناك قرية واحدة في المنيا هي قرية "دير البرشا" قد أعلنت وثيقة لإدانة هذه الممارسة العنيفة. ومن هنا بدأت معرفتي بماري أسعد والتعاون بيننا في مجال مناهضة ختان الإناث.جاءت ماري أسعد إلى مكتبي للمرة الأولى في بداية عام 2002، وفي اجتماع حضره مجموعة صغيرة من الخبراء في مجال الصحة الإنجابية ومناهضة ختان الإناث والتنمية المجتمعية، تكلمت ماري عن حجم قضية ختان الإناث في مصر، وعن الدوافع الاجتماعية والثقافية التي تجعل المصريون يتمسكون به منذ آلاف السنين وأهمها الاعتقاد الخاطئ إنه يحفظ عفة وطهارة المرأة. تناقشنا طويلاً وتكلمت معي عن دور الجمعيات الأهلية عقب المؤتمر الدولي للسكان والتنمية في عام 1994 في تسليط الضوء على قضية ختان الإناث داخل المؤتمر وفي أعقابه، وأعربت عن سعادتها بتبنى المجلس القومي للطفولة والأمومة قضية مكافحة ختان الإناث ضمن موضوعات حماية الطفل حتى يتحقق دعم سياسي وإعلامي وقانوني أكبر لهذه القضية، وحتى تصل رسائل مناهضة ختان الإناث إلى جمهور أكبر وفئات أكثر " وهو ما تحقق بالفعل بعد ذلك". في هذه الفترة شاركت ماري بحماسة كبيرة في تحفيز الجمعيات الأهلية لبناء أول برنامج قومي لمناهضة ختان الإناث ضمن برامج حماية الطفل بالمجلس القومي للطفولة والأمومة. أذكر جيداً في الاجتماع الأول لمناقشة التصور المبدئي للبرنامج في مقر المجلس القومي للطفولة والأمومة في نهاية عام 2002. وقد بدأنا اختيار اسم المشروع، كنت أرى أن نقتحم الموضوع مباشرة ونطلق على المشروع اسم "مناهضة ختان الإناث" بشكل واضح، وكان هناك فريق كبير مشارك في الاجتماع من الحكومة والجمعيات الأهلية وشركاء التنمية، يرى ألا نضع ختان الإناث بشكل صريح في عنوان المشروع نظراً لحساسيته، وأن نطلق عليه "مناهضة الممارسات الضارة بالمرأة والطفل أو مناهضة العادات والتقاليد الضارة" ، حتى يلق القبول الاجتماعي ولا يثير الحساسية. انحازت ماري أسعد للرأي الأول؛ ألا وهو وضع مناهضة ختان الإناث بشكل صريح ودون مواربة في اسم البرنامج. رغم أنها كانت أكبر المشاركين عمراً في هذا الاجتماع، لكنها كانت أجرأ كثيراً من الشبان والشابات. والجرأة –في تقديري – ملمح مهم في شخصية ماري أسعد كان يختفي وراء صغر حجم جسدها وشعرها الأبيض. ومن هنا ولد أول برنامج وطني حكومي لمواجهة هذا الموضوع الشائك والحساس جداً، وكسر كل التابوهات المحاط به؛ البرنامج القومي لمناهضة ختان الإناث في عام 2003. وبدأ البرنامج القومي لمناهضة ختان الإناث بالمجلس القومي للطفولة والأمومة في دراسة الخصائص الاجتماعية والثقافية لكل قرية ينفذ فيها، والاسترشاد بها في وضع خطة عمل تنفذها الجمعيات الأهلية المحلية، توطئة لإعلان ١٢٠ قرية رافضة لتشويه الأعضاء التناسلية للإناث.وفي إطار بناء استراتيجيات عمل البرنامج القومي لمناهضة ختان الإناث، أسهمت ماري أسعد بشكل كبير في تقديم الجمعيات الأهلية الرائدة في مجال مناهضة ختان الإناث إلى المجلس القومي للطفولة والأمومة ، ليصيروا الشركاء الأساسيين والأذرع التنفيذية للعمل مع الجمهور وتوصيل الرسائل والمعلومات العلمية والدينية والحقوقية الموثقة حول هذه الممارسة العنيفة ضد المرأة والطفلة، وتكوين صوت مجتمعي قاعدي يقول " لا لختان الإناث " ، وخاصة من قرى الصعيد المصري التي ترتفع فيها معدلات انتشار ممارسة ختان الإناث أكثر من باقي الأقاليم المصرية. صارت هذه الشبكة الكبيرة من الجمعيات الأهلية والمنتشرة في القرى والمحافظات المختلفة نواة المجلس القومي للطفولة والأمومة بعد ذلك للعمل في كافة موضوعات حماية الطفل، وأيضاً القاعدة الاجتماعية التي عملت معنا في وضع قانون الطفل بشكل عام وقانون تجريم ختان الإناث بعد ذلك. وكانت أيضاً القاعدة التي دافعت عن قانون تجريم ختان الإناث عندما حاولت بعض القوى الدينية المتشددة إلغاؤه بعد 25 يناير 2011. ماري أسعد كانت شخصية موهوبة في التعرف على قدرات الأشخاص ومواهبهم وتوظيفهم كل في دوره وبحسب موهبته. وكانت تؤمن دائماً بالشابات والشبان وقدراتهم على عمل الجديد والجيد. وفي حواري معها كانت دائماً تقول لي " عندي ثقة كاملة في مجموعة الشابات والشبان الذين يعملون معك، وفي قدرتهم على تنفيذ المهام المكلفين بها على أحسن ما يكون ".المشهد الرائع والذي مازلت أتذكره رغم مرور حوالي 14 سنة، هو مشهد قرية بنبان التي تقع في أقصى محافظة أسوان، وذلك في يونيو 2005. حيث اجتمع آلاف الناس في درجة حرارة مرتفعة جداً ؛ سيدات ورجال، أطفال وشباب وشيوخ، شخصيات مهمة من الحكومة والجمعيات الأهلية والهيئات الدولية ليعلنوا "بنبان قرية مناهضة لختان الإناث" ويوقعوا على وثيقة تدين ممارسة ختان الإناث ويتعهدون بالعمل بكل السبل لإنهاء هذه الممارسة العنيفة وحماية البنات منها. ووسط هذا المشهد الرائع وقعت ماري على وثيقة قرية بنبان معنا ومع كل هذه الجماهير الكبيرة . كانت سعيدة جداً في هذا اليوم، وتشعر أن البرنامج القومي لمناهضة ختان الإناث بدأ أول خطواته لتحقيق أهدافه في القضاء على ختان الإناث في مصر. وأمام هذا الجمهور الكبير، كرم المجلس القومي للطفولة والأمومة ماري أسعد على جهودها الكبيرة في مجال العمل الأهلي ودورها الرائد في مناهضة ختان الإناث.سأظل دائماً أفتقد ماري أسعد، الشخصية الحكيمة المتزنة، المتواضعة والعميقة في بساطتها. لكن عزائي دائماً أنها عاشت في حياتها لحظات رائعة مع أسرتها وأصدقائها الذين أحبوها وأخلصوا لها إلى النفس الأخير. وأنها شاهدت أحلامها وقد تحققت، وأصبح ختان الإناث جريمة في القانون المصري وبات الخطاب الديني يحرمه بشكل قاطع، والأهم من كل ذلك أن رسالتها وصلت إلى ملايين الأسر المصرية التي أصبحت أكثر شجاعة في حماية بناتها من هذا العنف، وأكثر تطلعاً إلى مستقبل وحياة أكثر سعادة وكرامة لهن.